فصل: سئل: عما شَجَرَ بين الصحابة ـ علي ومعاوية وطلحة وعائشة ـ هل يطالبون به أم لا‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وَسُئِلَ عمن يقول‏:‏

لا أفضل على عليٍّ غيره، وإذا ذكر‏[‏علي]‏ صلى عليه مفردًا، هل يجوز له أن يخصه بالصلاة دون غيره‏؟‏

فَأَجَــابَ‏:‏

ليس لأحد أن يخص أحدًا بالصلاة عليه دون النبي صلى الله عليه وسلم، لا أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا عليًا، ومن فعل ذلك فهو مبتدع، بل إما أن يصلي عليهم كلهم أو يدع الصلاة عليهم كلهم‏.‏

بل المشروع أن يقول‏:‏ ‏(‏اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد‏)‏‏.‏

ومن قال‏:‏ لا أُفَضِّل عَلَى عَلِيّ غيره فهو مخطئ مخالف للأدلة الشرعية‏.‏

واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِلَ عن قول الشيخ أبي محمد عبد اللّه بن أبي زيد في آخر عقيدته‏:‏ وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏.‏ وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي‏.‏ فما الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر‏؟‏ وتفضيل عمر على عثمان، وعثمان على عليّ ‏؟‏ فإذا تبين ذلك، فهل تجب عقوبة من يفضل المفضول على الفاضل أم لا‏؟‏ بينوا لنا ذلك بيانا مبسوطًًًًا مأجورين، إن شاء الله تعالى‏.‏

فَأجَاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، أما تفضيل أبي بكر، ثم عمر علَى عثمان وعلي، فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سَلَمة، وأمثالهم من أهل العراق‏.‏ وهو مذهب الشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة‏.‏ وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال‏:‏ ما أدركتُ أحدًا ممن أقتدى به يشك في تقديم أبي بكر وعمر‏.‏

/وهذا مستفيض عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب‏.‏ وفي صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية؛ أنه قال لأبيه على بن أبي طالب‏:‏ يا أبت مَن خيُر الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ يا بني، أو ما تعرف‏؟‏‏!‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أبو بكر‏.‏ قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ عمر‏.‏ ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجها، وأنه كان يقوله على منبر الكوفة؛ بل قال‏:‏ لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حَدَّ المفْتَرِى‏.‏ فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله ـ رضي اللّه عنه ـ ثمانين سوطًًًًا‏.‏

وكان سفيان يقول‏:‏ من فضل علياً على أبي بكر، فقد أزْرَى‏ [‏أي‏:‏ حطَّ من شأنهم] ‏بالمهاجرين، وما أرى أنه يصعد له إلى اللّه عمل ـ وهو مقيم على ذلك‏.‏ وفي الترمذي، وغيره روى هذا التفضيل‏:‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين؛ إلا النبيين والمرسلين‏)‏‏.‏ وقد استفاض في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه‏:‏ من حديث أبي سعيد، وابن عباس، وجندب بن عبد اللّه، وابن الزبير، وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذًًًًا من أهل الأرض خليلًًًًا لاتخذت أبا بكر خليلًًًًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه‏)‏ يعني‏:‏ نفسه‏.‏

وفي الصحيح أنه قال على المنبر‏:‏ ‏(‏إن أمنَّ الناس علىَّ في صحبته، وذات يده، أبو بكر، ولو كنت متخذًًًًا من أهل الأرض خليلًًًًا لاتخذت أبا بكر خليلًًًًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه‏.‏ ألا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سُدَّتْ إلا خَوْخة / أبي بكر‏)‏‏.‏ وهذا صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض من يستحق المخالَّة لو كانت ممكنة من المخلوقين إلا أبا بكر‏.‏ فعلم أنه لم يكن عنده أفضل منه، ولا أحب إليه منه، وكذلك في الصحيح أنه قال عمرو بن العاص‏:‏ أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عائشة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فمن الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أبوها‏)‏‏.‏

وكذلك في الصحيح أنه قال لعائشة‏:‏ ‏(‏ادعى لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي، ثم قال‏:‏ يَأْبَي اللّه والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏، وفي الصحيح عنه أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول اللّه، أرأيت إن جئتُ فلم أجدك ـ كأنها تعني الموت ـ قال‏:‏ ‏(‏فَأْتى أبا بكر‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عنه أنه كان في سفر فقال‏:‏ ‏(‏إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏رأيت كأني وضعت في كفة والأمة في كفة، فَرَجَحتُ بالأمة، ثم وضع أبو بكر في كفة والأمة في كفة، فرجح أبو بكر، ثم وضع عمر في كفة والأمة في كفة، فرجح عمر‏)‏‏.‏

وفي الصحيح أنه كان بين أبي بكر وعمر كلام، فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فلم يفعل‏.‏ فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏اجلس يا أبا بكر، يغفر اللّه لك‏)‏ وندم عمر، فجاء إلى منزل أبي بكر فلم يجده، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إني جئت إليكم، فقلت‏:‏ إني رسول اللّه، فقلتم‏:‏ كذبت، وقال أبو بكر‏:‏ صدقت‏.‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ فهل أنتم تاركو لي /صاحبي‏؟‏‏)‏ فما أوذي بعدها‏.‏ وقد تواتر في الصحيح والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض قال‏:‏ ‏(‏مروا أبا بكر فليصل بالناس‏)‏ مرتين، أو ثلاثًًًًا، حتى قال‏:‏ ‏(‏إنكن لأنتن صواحب يوسف‏!‏ مروا أبا بكر أن يصلي بالناس‏)‏‏.‏

فهذا التخصيص، والتكرير، والتوكيد ـ في تقديمه في الإمامة على سائر الصحابة مع حضور عمر وعثمان وعلى وغيرهم ـ مما بين للأمة تقدمه عنده صلى الله عليه وسلم على غيره‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن جنازة عمر لما وضعت جاء على بن أبي طالب يتخلل الصفوف، ثم قال‏:‏ لأرجو أن يجعلك اللّه مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر‏)‏‏.‏ فهذا يبين ملازمتهما للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ في مدخله، ومخرجه، وذهابه‏.‏

ولذلك قال مالك للرشيد‏:‏ لما قال له‏:‏ يا أبا عبد اللّه، أخبرني عن منزلة أبي بكر، وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته، فقال‏:‏ شفيتني يا مالك‏.‏ وهذا يبين أنه كان لهما من اختصاصهما بصحبته، ومؤازرتهما له على أمره، ومباطنتهما، مما يعلمه بالاضطرار كل من كان عالمًًًًا بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأقواله، وأفعاله، وسيرته مع أصحابه‏.‏

ولهذا لم يتنازع في هذا أحد من أهل العلم بسيرته وسنته وأخلاقه، وإنما /ينفي هذا أو يقف فيه من لا يكون عالمًا بحقيقة أمور النبي صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان له نصيب من كلام أو فقه أو حساب أو غير ذلك ـ أو من يكون قد سمع أحاديث مكذوبة تناقض هذه الأمور المعلومة بالاضطرار عند الخاصة من أهل العلم، فتوقف في الأمر، أو رجح غير أبي بكر‏.‏

وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وإن كان غيرهم يشك فيها، أو ينفيها، كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته، وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم‏:‏ في الصفات، والقدر، والعلو، والرؤية، وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته، كما تواترت عندهم عنه، وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك، كما تواتر عند الخاصة ـ من أهل العلم عنه ـ الحكم بالشُّفْعَة، وتحليف المدعى عليه، ورجم الزاني المحصن، واعتبار النِّصَاب في السرقة، وأمثال ذلك من الأحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع‏.‏

ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول، بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه، كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القَسامة، والقُرْعَة، وغير ذلك من الأمور التي لم تبلغ هذا المبلغ‏.‏

وأما عثمان، وعلىُّ، فهذه دون تلك، فإن هذه كان قد حصل فيها نزاع /فإن سفيان الثوري وطائفة من أهل الكوفة، رجحوا عليًًًًا على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره‏.‏ وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلى، وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على عليٍّ، كما هو مذهب سائر الأئمة؛ كالشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام‏.‏

حتى إن هؤلاء تنازعوا فيمن يقدم عليًًًًا على عثمان، هل يعد من أهل البدعة‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ وقد قال أيوب السخْتيَانِيّ، وأحمد بن حنبل، والدارقطني‏:‏ من قَدَّمَ عليًًًًا على عثمان فقد أزْرَى بالمهاجرين والأنصار‏.‏ وأيوب هذا إمام أهل السنة، وإمام أهل البصرة، روى عنه مالك في الموطأ، وكان لا يروى عن أهل العراق ‏.‏ وروى أنه سئل عن الرواية عنه، فقال‏:‏ ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه‏.‏ وذكره أبو حنيفة فقال‏:‏ لقد رأيته قعد مقعدًا في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ما ذكرته إلا اقشعر جسمي‏.‏

والحجة لهذا ما أخرجاه في الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر؛ أنه قال‏:‏ كنا نفاضل على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ كنا نقول أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان‏.‏ وفي بعض الطرق يبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت بالنقل الصحيح ـ في صحيح البخاري وغير البخاري ـ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل الخلافة شوري في ستة أنفس؛عثمان، وعلى، /وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف ـ ولم يدخل معهم سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وكان من بني عدي ـ قبيلة عمرـ وقال عن ابنه عبد اللّه‏:‏ يحضركم عبد اللّه وليس له في الأمر شىء ووصى أن يصلي صهيب بعد موته، حتى يتفقوا على واحد‏.‏

فلما توفى عمر واجتمعوا عند المنبر، قال طلحة‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعثمان‏.‏ وقال الزبير‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي‏.‏ وقال سعد‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف‏.‏ فخرج ثلاثة وبقى ثلاثة‏.‏ فاجتمعوا، فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ يخرج منا واحد، ويولي واحدًا، فسكت عثمان، وعلى‏.‏ فقال عبد الرحمن‏:‏ أنا أخرج‏.‏ وروى أنه قال‏:‏ عليه عهد اللّه وميثاقه أن يولي أفضلهما ‏.‏ ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصارـ فإنهم كانوا في المدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته ـ حتى قال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ إن لي ثلاثًًًًا ما اغتمضت بنوم‏.‏ فلما كان اليوم الثالث قال لعثمان‏:‏ عليك عهد اللّه وميثاقه، إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عليًًًًا لتسمعن ولتطيعن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وقال لعلي‏:‏ عليك عهد اللّه وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان، فبايعه على، وعبد الرحمن، وسائر المسلمين؛ بيعة رضًا، واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة خوفهم بها‏.‏

/وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي‏.‏ فلهذا قال أيوب، وأحمد بن حنبل، والدارقطني‏:‏ من قدم عليًًًًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، فإنه وإن لم يكن عثمان أحق بالتقديم، وقد قدموه، كانوا إما جاهلين بفضله، وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني‏.‏ ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم‏.‏

ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمان ِلضِغْنٍ كان في نفس بعضهم على عليٍّ، وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة، ونحو ذلك مما يقوله أهل الأهواء، فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق، وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق‏.‏ هذا وهم في أعز ما كانوا، وأقوي ما كانوا، فإنه حين مات عمر كان الإسلام من القوة، والعز، والظهور، والاجتماع والائتلاف فيما لم يصيروا في مثله قط‏.‏وكان عمر أعَزَّ أهل الإيمان، وأذل أهل الكفر والنفاق‏:‏ إلى حد بلغ في القوة والظهور مبلغًًًًا، لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور‏.‏

فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم، وجعل خير أمة أخرجت للناس على خلاف ما شهد اللّه به لهم‏.‏

وهذا هو أصل مذهب الرافضة، فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديًا أظهر الإسلام نفاقًًًًا، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان؛ ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة‏.‏ فإنه يكون الرجل واقفًًًًا، ثم يصير / مُفَضِّلًًًًا، ثم يصير سَبَّابًا، ثم يصير غاليا، ثم يصير جاحدًًًًا مُعَطِّلًًًًا؛ ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية، والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة، والنفاق‏.‏

فإن القَدْح في خير القرون ـ الذين صحبوا الرسول ـ قَدْحٌ في الرسول ـ عليه السلام ـ كما قال مالك وغيره من أئمة العلم‏:‏ هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل‏:‏ رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلًًًًا صالحًًًًا لكان أصحابه صالحين‏.‏

وأيضًا، فهؤلاء الذين نقلوا القرآن، والإسلام، وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيره فالقدح فيهم يوجب ألا يوثق بما نقلوه من الدين، وحينئذ فلا تثبت فضيلة، لا لعلي، ولا لغيره‏.‏ والرافضة جهال ليس لهم عقل، ولا نقل ولا دين، ولا دنيا منصورة‏.‏ فإنه لو طلب منهم الناصبي ـ الذي يبغض عليًا، ويعتقد فسقه أو كفره‏:‏ كالخوارج وغيرهم ـ أن يثبتوا إيمان علي؛ وفضله‏:‏ لم يقدروا على ذلك، بل تغلبهم الخوارج‏.‏ فإن فضائل على إنما نقلها الصحابة الذين تقدح فيهم الرافضة‏.‏ فلا يتيقن له فضيلة معلومة على أصلهم، فإذا طعنوا في بعض الخلفاء ـ بما يفترونه عليهم من أنهم طلبوا الرياسة، وقاتلوا على ذلك ـ كان طعن الخوارج في علي بمثل ذلك وأضعافه أقرب من دعوى ذلك على من أطيع بلا قتال، ولكن الرافضة جهال متبعون الزنادقة‏.‏

/والقرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏100‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏18‏]‏‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة‏)‏، وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه‏)‏، وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه أنه قال‏:‏ ‏(‏خيْرُ القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يَلُونَهُمْ، ثم الذين يَلُونَهُم‏)‏‏.‏ وهذه الأحاديث مستفيضة، بل متواترة في فضائل الصحابة، والثناء عليهم، وتفضيل قَرْنِهم على من بعدهم من القرون‏.‏ فالَقدْحُ فيهم قدح في القرآن، والسنة؛ ولهذا تكلم الناس في تكفير الرافضة بما قد بسطناه في غير هذا الموضع‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

/ وَسُئلَ ـ رضي اللّهُ عَنْهُ ـ عما شَجَرَ بين الصحابة ـ علي، ومعاوية، وطلحة، وعائشة ـ هل يطالبون به أم لا‏؟‏

فَأَجَاب‏:‏

قد ثبت بالنصوص الصحيحة أن عثمان وعليًا، وطلحة، والزبير، وعائشة، من أهل الجنة، بل قد ثبت في الصحيح أنه لا يَدْخُل النارَ أحَدٌ بايع تحت الشجرة‏.‏

وأبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، هم من الصحابة، ولهم فضائل ومحاسن‏.‏

وما يحكى عنهم كثير منه كَذِب، والصدق منه إن كانوا فيه مجتهدين، فالمجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر، وخطؤه يغفر له‏.‏

/وإن قُدِّرَ أن لهم ذنوبًًًًا، فالذنوب لا توجب دخول النار مطلقًًًًا، إلا إذا انتفت الأسباب المانعة من ذلك وهي عشرة‏:‏

منها التوبة، ومنها الاستغفار، ومنها الحسنات الماحية، ومنها المصائب المكفرة، ومنها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها شفاعة غيره، ومنها دعاء المؤمنين، ومنها ما يهدي للميت من الثواب والصدقة والعتق، ومنها فتنة القبر، ومنها أهوال القيامة‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خَيْر القرونِ القرنُ الذي بُعِثْتُ فيه، ثم الذين يَلُونَهُم، ثم الذين يلونهم‏)‏‏.‏

وحينئذ، فمن جزم في واحد من هؤلاء بأن له ذنبًا يدخل به النار قطعًا، فهو كاذب مفتر‏.‏ فإنه لو قال ما لا علم له به لكان مبطلًًًًا، فكيف إذا قال ما دلت الدلائل الكثيرة على نقيضه‏؟‏ فمن تكلم فيما شجر بينهم ـ وقد نهى اللّه عنه؛ من ذمهم أو التعصب لبعضهم بالباطل ـ فهو ظالم معتد‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تَمْرُقُ مارقة على حين فُرْقَة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال عن الحسن‏:‏ ‏(‏إن ابني هذا سيد، وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏‏.‏

/وفي الصحيحين عن عمار أنه قال‏:‏ ‏(‏تقتله الفئة الباغية‏)‏، وقد قال تعالى في القرآن‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ ‏.‏

فثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف على أنهم مؤمنون مسلمون، وأن عليَّ بن أبي طالب والذين معه كانوا أولى بالحق من الطائفة المقاتلة له، واللّه أعلم‏.‏

/قال شَيخُ الإِسْلاَم ابن تَيْمِية‏:‏

 فائــدة

ومما ينبغي أن يعلم‏:‏ أنه وإن كان المختار الإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة، والاستغفار للطائفتين جميعًا وموالاتهم، فليس من الواجب اعتقاد أن كل واحد من العسْكَر لم يكن إلا مجتهدًا متأولًًًًا؛ كالعلماء، بل فيهم المذنب والمسىء، وفيهم المقصر في الاجتهاد لنوع من الهوى، لكن إذا كانت السيئة في حسنات كثيرة كانت مرجوحة مغفورة‏.‏

وأهل السنة تحسن القول فيهم وتترحم عليهم، وتستغفر لهم، لكن لا يعتقدون العِصْمَة من الإقرار على الذنوب، وعلى الخطأ في الاجتهاد، إلا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومَنْ سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب والخطأ، لكن هم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ‏}‏ الآية‏[‏الأحقاف‏:‏16‏]‏‏.‏

وفضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها لا بصورها‏.‏

/ فصل

في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين

الخلفاء الراشدون الأربعة ابتلوا بمعاداة بعض المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة، ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم‏.‏ فأَبو بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف؛ ولهذا قيل للإمام أحمد‏:‏ من الرافضي‏؟‏ قال‏:‏ الذي يسب أبا بكر وعمر‏.‏ وبهذا سميت الرافضة، فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر، لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي، وقيل‏:‏ إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر‏.‏

وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلوَّ في عليّ بِدَعوَى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له؛ ولهذا لما كان مبدؤه من النفاق قال بعض السلف‏:‏ حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحب بني هاشم إيمان، وبغضهم نفاق‏.‏

وقال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة، أي من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمر بها؛ فإنه قال‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر‏)‏؛ ولهذا كان معرفة فضلهما على من بعدهما واجبًا لا يجوز التوقف فيه، بخلاف عثمان وعلى، ففي جواز التوقف فيهما قولان‏.‏

وكذلك هل يسوغ الاجتهاد في تفضيل عليّ على عثمان‏؟‏ فيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليًا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة؛ لمخالفته لإجماع الصحابة؛ ولهذا قيل‏:‏ من قدَّم عليًا على عثمان، فقد /أزرى بالمهاجرين والأنصار‏.‏ يروي ذلك عن غير واحد؛ منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل، والدارقطني‏.‏

والثانية‏:‏ لا يُبَدَّع من قدم عليًا ؛ لتقارب حال عثمان وعليّ؛ إذ السنة هي الشريعة وهي ما شرعه اللّه ورسوله من الدين، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فلا يجوز اعتقاد ضد ذلك، لكن يجوز ترك المستحب من غير أن يجوز اعتقاد ترك استحبابه؛ ومعرفة استحبابه فرض على الكفاية، لئلا يضيع شىء من الدين‏.‏ فلما قامت الأدلة الشرعية على وجوب اتباع أبي بكر وعمر وتقديمهما، لم يجز ترك ذلك‏.‏

وأما عثمان، فأبغضه أو سبه أو كفره أيضًا ـ مع الرافضة ـ طائفة من الشيعة الزيدية والخوارج‏.‏

وأما علي، فأبغضه وسبه ـ أو كفره ـ الخوارج، وكثير من بني أمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبوه‏.‏ فالخوارج تكفر عثمان وعليًًًًا وسائر أهل الجماعة‏.‏

وأما شيعة علي، الذين شايعوه بعد التحكيم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم، فكان بينهما من التقابل، وتَلاعُن بعضهم، وتكافر بعضهم ما كان، ولم تكن الشيعة التي كانت مع على يظهر منها تَنَقُّص لأبي بكر وعمر، ولا فيها من يقدم عليًا على أبي بكر وعمر، ولا كان سَبُّ عثمان شائعًا فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر‏.‏

وكذلك تفضيل عليّ عليه لم يكن مشهورًا فيها، بخلاف سبّ على فإنه كان /شائعًا في أتباع معاوية؛ ولهذا كان علي وأصحابه أولى بالحق وأقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه‏.‏ كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تَمْرُقُ مارقة على حين فُرْقَةٍ من المسلمين، فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏‏.‏ وروى في الصحيح أيضًا‏:‏ ‏(‏أدنى الطائفتين إلى الحق‏)‏‏.‏

وكان سب على ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها‏:‏ الطائفة الباغية، كما رواه البخاري في صحيحه، عن خالد الحَذَّاء، عن عِكْرِمة، قال‏:‏ قال لي ابن عباس ولابنه على‏:‏ انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه‏.‏ فانطلقنا، فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحْتَبَي به، ثم أنشأ يحدثنا، حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال‏:‏ كنا نحمل لَبِنَةً لَبِنة، وَعمَّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يَنْفُضُ التراب عنه ويقول‏:‏ ‏(‏ويْحَ عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار‏)‏ قال‏:‏ يقول عمار‏:‏ أعوذ باللّه من الفتن‏.‏

ورواه مسلم عن أبي سعيد ـ أيضًا ـ قال‏:‏ أخبرني من هو خير مني ـ أبو قتادة ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمار ـ حين جعل يحفر الخندق ـ جعل يمسح رأسه ويقول‏:‏ ‏(‏بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ تقتله فئة باغية‏)‏ ‏.‏ ورواه مسلم ـ أيضًا ـ عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تقتل عمارًا الفئة الباغية‏)‏‏.‏

وهذا ـ أيضًا ـ يدل على صحة إمامة على، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار ـ وإن كان متأولا ـ وهو /دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ، وإن كان متأولًًًًا أو باغ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليًا وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين‏.‏

وكذلك أنكر يحيى بن مَعِين على الشافعي استدلاله بسيرة على في قتال البغاة المتأولين، قال‏:‏ أيجعل طلحة والزبير بغاة‏؟‏ رد عليه الإمام أحمد فقال‏:‏ ويحك، وأي شىء يسعه أن يضع في هذا المقام‏:‏ يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن كلا منهما مصيب، وهذا بناء على قول من يقول‏:‏ كل مجتهد مصيب، و هو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية‏.‏

وفيها قول ثالث‏:‏ إن المصيب واحد لا بعينه‏.‏ذكر الأقوال الثلاثة ابن حامد، والقاضي، وغيرهما ‏.‏ وهذا القول يشبه قول المتوقفين في خلافة على من أهل البصرة، وأهل الحديث، وأهل الكلام؛ كالكرامية الذين يقولون‏:‏ كلاهما كان إمامًا، ويجوزون عقد الخلافة لاثنين‏.‏

لكن المنصوص عن أحمد تَبْدِيعُ من توقف في خلافة علي، وقال‏:‏ هو أضل من حمار أهله، وأمر بهُجْرانه، ونهى عن مناكحته، ولم يتردد أحمد ـ ولا أحد من أئمة السنة ـ في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك‏.‏ فتصويب أحدهما لا بعينه تجويز لأن يكون غير على أولى منه بالحق، وهذا لا يقوله إلا مبتدع ضال، فيه نوع من النصب وإن كان متأولًًًًا، لكن قد /يسكت بعضهم عن تخطئة أحد كما يمسكون عن ذمه والطعن عليه إمساكًًًًا عما شجر بينهم، وهذا يشبه قول من يصوب الطائفتين‏.‏

ولم يسترب أئمة السنة، وعلماء الحديث‏:‏ أن عليا أولى بالحق وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي ـ لما جاء من حديث عمار ـ جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل ‏.‏

يبقى أن يقال‏:‏ فاللّه ـ تعالى ـ قد أمر بقتال الطائفة الباغية فيكون قتالها كان واجبا مع علي، والذين قعدوا عن القتال هم جملة أعيان الصحابة، كسعد، وزيد، وابن عمر، وأسامة، و محمد بن مسلمة، وأبي بَكْرَة، وهم يروون النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الموضع‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يوشك أن يكون خير مال المسلم غَنَم يتبع بها شَعَفَ الجِبال، ومواقع القَطْر، يَفِرُّ بدينه من الفتن‏)‏ وأمره لصاحب السيف عند الفتنة ‏(‏أن يتخذ سيفًًًًا من خشب‏)‏ وبحديث أبي بَكْرَة للأحنف بن قيس، لما أراد أن يذهب ليقاتل مع علي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏)‏ الحديث، والاحتجاج على ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏لا تَرْجِعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رِقَاب بعض‏)‏‏.‏ وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة، حتى قال‏:‏ لا يختلف أصحابنا أن قعود على عن القتال كان أفضل /له لو قعد، وهذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له‏:‏ ألم أنهك يا أبت‏؟‏ وقوله‏:‏ للّه در مقام قامه سعد بن مالك وعبد اللّه بن عمر، إن كان برًا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير‏.‏

وهذا يعارض وجوب طاعته، وبهذا احتجوا على الإمام أحمد في ترك التربيع بخلافته، فإنه لما أظهر ذلك قال له بعضهم‏:‏ إذا قلت‏:‏ كان إمامًا واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير حيث لم يطيعاه بل قاتلاه، فقال لهم أحمد‏:‏ إني لست من حربهم في شىء، يعني‏:‏ أن ما تنازع فيه على وإخوانه لا أدخل بينهم فيه؛ لما بينهم من الاجتهاد والتأويل الذي هم أعلم به مني، وليس ذلك من مسائل العلم التي تعنيني حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم، وأنا مأمور بالاستغفار لهم، وأن يكون قلبي لهم سليمًا، ومأمور بمحبتهم وموالاتهم، ولهم من السوابق والفضائل ما لا يهدر، ولكن اعتقاد خلافته وإمامته ثابت بالنص وما ثبت بالنص، وجب اتباعه وإن كان بعض الأكابر تركه، كما أن إمامة عثمان وخلافته ثابتة إلى حين انقراض أيامه؛ وإن كان في تخلف بعضهم عن طاعته أو نصرته، وفي مخالفة بعضهم له من التأويل ما فيه، إذ كان أهون ما جرى في خلافة علي‏.‏

وهذا الموضع هو الذي تنازع فيه اجتهاد السلف والخلف، فمن قوم يقولون بوجوب القتال مع علي، كما فعله من قاتل معه، وكما يقول كثير /من أهل الكلام والرأي الذين صنفوا في قتال أهل البغي، حيث أوجبوا القتال معه؛ لوجوب طاعته، ووجوب قتال البغاة، ومبدأ ترتيب ذلك من فقهاء الكوفة واتبعهم آخرون‏.‏

ومن قوم يقولون‏:‏ بل المشروع ترك القتال في الفتنة كما جاءت به النصوص الكثيرة المشهورة، كما فعله من فعله من القاعدين عن القتال لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك القتال في الفتنة خير، وأن الفرار من الفتن باتخاذ غَنَم في رؤوس الجبال خير من القتال فيها وكنهيه لمن نهاه عن القتال فيها، وأمره باتخاذ سيف من خشب، ولكون على لم يذم القاعدين عن القتال معه، بل ربما غبطهم في آخر الأمر‏.‏

ولأجل هذه النصوص لا يختلف أصحابنا أن ترك على القتال كان أفضل؛ لأن النصوص صرحت بأن القاعد فيها خير من القائم، والبعد عنها خير من الوقوع فيها، قالوا‏:‏ ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته، ومن المعلوم أنهم إذا لم يبدؤوه بقتال فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما وقع من خروجهم عن طاعته، لكن بالقتال زاد البلاء، وسفكت الدماء، وتنافرت القلوب، وخرجت عليه الخوارج، وحكم الحكمان، حتى سمى منازعه بأمير المؤمنين، فظهر من المفاسد ما لم يكن قبل القتال ولم يحصل به مصلحة راجحة‏.‏

وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله، فإن فضائل الأعمال إنما هي /بنتائجها وعواقبها، والقرآن إنما فيه قتال الطائفة الباغية بعد الاقتتال ؛ فإنه قال تعالى‏:‏‏}‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فلم يأمر بالقتال ابتداء مع واحدة من الطائفتين، لكن أمر بالإصلاح وبقتال الباغية‏.‏

و إن قيل‏:‏ الباغية يعم الابتداء والبغي بعد الاقتتال‏.‏

قيل‏:‏ فليس في الآية أمر لأحدهما بأن تقاتل الأخرى، وإنما هو أمر لسائر المؤمنين بقتال الباغية، والكلام هنا إنما هو في أن فعل القتال من عِلىٍّ لم يكن مأموراً به، بل كان تركه أفضل، وأما إذا قاتل لكون القتال جائزاً، وإن كان تركه أفضل، أو لكونه مجتهداً فيه، وليس بجائز في الباطن، فهنا الكلام في وجوب القتال معه للطائفة الباغية أو الإمساك عن القتال في الفتنة، وهوموضع تعارض الأدلة، واجتهاد العلماء والمجاهدين من المؤمنين، بعد الجزم بأنه وشيعته أولى الطائفتين بالحق، فيمكن وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان؛ إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحياناً هي التألف بالمال، والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة، ولم تكــن حــاصلة كان الترك فــي نفس الأمر أصلح‏.‏

/ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته، علم أنه قتال فتنة، فلا تجب طاعة الإمام فيه؛ إذ طاعته إنما تجب فيما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص، فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة ـ الذي تركه خير من فعله ـ لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولى الأمر، ولا سيما وقد أمر اللّه ـ تعالى ـ عند التنازع بالرد إلى اللّه والرسول‏.‏

ويشهد لذلك أن الرسول أخبر بظلم الأمراء بعده وبغيهم، ونهى عن قتالهم؛ لأن ذلك غير مقدور إذ مفسدته أعظم من مصلحته، كما نهى المسلمون في أول الإسلام عن القتال، كما ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين والعفو والصفح عنهم حتى يأتي اللّه بأمره‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنها صارت باغية في أثناء الحال بما ظهر منها من نصب إمام وتسميته أمير المؤمنين، ومن لعن إمام الحق، ونحو ذلك‏.‏ فإن هذا بغي، بخلاف الاقتتال قبل ذلك، فإنه كان قتال فتنة، وهو ـ سبحانه ـ قد ذكر اقتتال الطائفتين من المؤمنين ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، فلما أمر بالقتال إذا بغت إحدى الطائفتين المقتتلتين، دل على أن الطائفتين المقتتلتين قد تكون إحداهما باغية في حال دون حال‏.‏

فما ورد من النصوص بترك القتال في الفتنة، يكون قبل البغي، وما ورد من الوصف بالبغي يكون بعد ذلك، وحينئذ يكون القتال مع عليٍّ واجباً لما /حصل البغي، وعلى هذا يتأول ما روى ابن عمر‏:‏ إذا حمل على القتال في ذلك‏.‏ وحينئذ فبعد التحكيم والتشيع وظهور البغي لم يقاتلهم على، ولم تطعه الشيعة في القتال، ومن حينئذ ذمت الشيعة بتركهم النصر مع وجوبه، وفي ذلك الوقت سموا شيعة، وحينئذ صاروا مذمومين بمعصية الإمام الواجب الطاعة، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ولما تركوا ما يجب من نصره صاروا أهل باطل وظلم إذ ذاك يكون تارة لترك الحق وتارة لتعدي الحق‏.‏

فصار حينئذ شيعة عثمان الذين مع معاوية أرجح منهم؛ ولهذا انتصروا عليهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من خالفهم‏)‏ وبذلك استدل معاوية، وقام مالك بن يُخَامِر‏] ‏ويقال‏:‏ أخامر السكسكي الألهاني الحمصي، يقال‏:‏ له صحبة، وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة سبعين، وقيل سنة اثنتين وسبعين‏[‏فروى عن معاذ بن جبل أنهم بالشام‏.‏ وعليّ هو من الخلفاء الراشدين، ومعاوية أول الملوك، فالمسألة هي من هذا الجنس، وهو‏:‏ قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين، فإن كثيرًا من الناس يبادر إلى الأمر بذلك، لاعتقاده أن في ذلك إقامة العدل، ويغفل عن كون ذلك غير ممكن بل تربو مفسدته على مصلحته‏.‏

ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وقد يكون هذا من أسرار القرآن في كونه لم يأمر بالقتال ابتداء، وإنما أمر بقتال الطائفة الباغية بعد اقتتال الطائفتين، وأمر بالإصلاح بينهما، فإنه إذا اقتتلت طائفتان من أهل /الأهواء ـ كقَيْس ويمن ـ إذ الآية نزلت في نحو ذلك ـ فإنه يجب الإصلاح بينهما، وإلا وجب على السلطان والمسلمين أن يقاتلوا الباغية؛ لأنهم قادرون على ذلك، فيجب عليهم أداء هذا الواجب، وهذا يبين رجحان القول ابتداء، ففي الحال الأول لم تكن القدرة تامة على القتال ولا البغي حاصلاً ظاهرًا، وفي الحال الثاني حصل البغي وقوى العجز وهو أولى الطائفتين بالحق وأقربهما إليه مطلقًا، والأخرى موصوفة بالبغي كما جاء ذلك في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد، كما تقدم‏.‏

وقد كان معاوية والمغيرة وغيرهما يحتجون لرجحان الطائفة الشامية، بما هو في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة‏)‏، فقام مالك بن يخامر فقال‏:‏ سمعت معاذ بن جبل يقول‏:‏ وهم بالشام، فقال معاوية‏:‏ وهذا مالك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذًا يقول‏:‏ وهم بالشام، وهذا الذي في الصحيحين من حديث معاوية فيهما ـ أيضاً ـ نحوه من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تزال من أمتي أمة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك‏)‏ وهذا يحتجون به في رجحان أهل الشام بوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الذين ظهروا وانتصروا وصار الأمر إليهم بعد الاقتتال والفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يضرهم من خالفهم‏)‏ وهذا يقتضى /أن الطائفة القائمة بالحق من هذه الأمة هى الظاهرة المنصورة، فلما انتصر هؤلاء كانوا أهل الحق‏.‏

والثاني‏:‏ أن النصوص عينت أنهم بالشام، كقول معاذ، وكما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يزال أهل الغرب ظاهرين‏)‏ قال الإمام أحمد‏:‏ وأهل الغرب هم أهل الشام‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيما بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه، وما يشرق عنها فهو شرقه، وكان يسمى أهل نجد وما يشرق عنها أهل المشرق، كما قال ابن عمر‏:‏ قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من البيان لسحرًا‏)‏‏.‏

وقد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشر أن أصله من المشرق؛ كقوله‏:‏ ‏(‏الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا‏)‏ ويشير إلى المشرق، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رأس الكفر نحو المشرق‏)‏ ونحو ذلك‏.‏ فأخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها، والفتنة ورأس الكـفر بالمشرق، وكـان أهـل المدينة يسـمون أهــل الشام أهل المغرب، ويقولون عن الأوزاعي‏:‏ إنه إمام أهل المغرب، ويقولون عن سفيان الثوري ونحوه‏:‏ إنه مشرقي إمام أهل المشرق، وهذا لأن منتهى الشام عند الفرات هو على مُسَامَتَة‏ [‏أي‏:‏ على مقربة منه‏] مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم طول كل منهما، وبعد ذلك حَرَّان والرَّقَّة ونحوهما على مسامتة مكة؛ ولهذا كانت قبلتهم أعدل /القبلة، بمعنى‏:‏ أنهم يستقبلون الركن الشامي ويستدبرون القطب الشامي من غير انحراف إلى ذات اليمين؛ كأهل العراق، ولا إلى ذات الشمال؛ كأهل الشام‏.‏

قالوا‏:‏ فإذا دلت هذه النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف، ولا خذلان الخاذل هي بالشام، كان هذا معارضًا لقوله‏:‏ ‏(‏تقتل عمارا الفئة الباغية‏)‏، ولقوله‏:‏ ‏(‏تقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏، وهذا من حجة من يجعل الجميع سواء والجميع مصيبين، أو يمسك عن الترجيح وهذا أقرب‏.‏ وقد احتج به من هؤلاء على أولئك، لكن هذا القول مرغوب عنه وهو من أقوال النواصب، فهو مقابل بأقوال الشيعة والروافض، هؤلاء أهل الأهواء وإنما نتكلم هنا مع أهل العلم والعدل‏.‏

ولا ريب أن هذه النصوص لابد من الجمع بينها والتأليف، فيقال‏:‏ أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يزال أهل الغرب ظاهرين‏)‏ ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم، فهكذا وقع وهذا هو الأمر، فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين‏.‏

وأما قوله ـ عـليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه‏)‏ ومن هو ظاهر، فلا يقتضي ألا يكون فيهم من فيه بغي ومن غيره أولى بالحق منهم، بل فيهم هذا وهذا‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏تقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏ فهذا دليل على أن عليًا /ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى، وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحًا في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائماً بأمر اللّه، وأن يكون ظاهراً بالقيام بأمر اللّه عن طاعة اللّه ورسوله، وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه‏.‏

وأما كون بعضهم باغياً في بعض الأوقات، مع كون بغيه خطأ مغفورًا، أو ذنبًا مغفورًا، فهذا ـ أيضاً ـ لا يمنع ما شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم، ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال‏.‏

وكذلك عمر بن الخطاب كان يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق، حتى قدم الشام غير مرة، وامتنع من الذهاب إلى العراق، واستشار فأشار عليه أنه لا يذهب إليها، وكذلك حين وفاته لما طعن أدخل عليه أهل المدينة أولاً وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة، ثم أدخل عليه أهل الشام، ثم أدخل عليه أهل العراق، وكانوا آخر من دخل عليه ـ هكذا في الصحيح‏.‏

وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال‏:‏ لَكَفْر من كفور الشام أحب إلى من فتح مدينة بالعراق‏.‏

والنصوص التي في كتاب اللّّه وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام، وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق، أكثر من أن تذكر هنا، بل عن/ النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص الصحيحة في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ما ليس هذا موضعه، وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين على، وذاك كان أمرًا عارضًا؛ ولهذا لما ذهب عليٌّ ظهر منهم من الفتن، والنفاق، والردة، والبدع، ما يعلم به أن أولئك كانوا أرجح‏.‏

وكذلك ـ أيضًا ـ لا ريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام، كما كان على وابن مسعود وعمار وحذيفة ونحوهم، أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة، لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر راجح‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر اللّه دائمًا إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر، فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير الشام من أرض الإسلام، فإن الحجاز ـ التي هي أصل الإيمان ـ نقص في آخر الزمان منها‏:‏ العلم والإيمان والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق‏.‏

وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان، ومن يقاتل عليه منصوراً مؤيداً في كل وقت، فهذا هذا، واللّه أعلم‏.‏

وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن علياً كان أولى / بالحق ممن فارقه، ومع أن عمارًا قتلته الفئة الباغية ـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند اللّه، ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة‏.‏ فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف‏.‏

ولهذا لما اعتقـدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع علي، جعلوا ذلك قاعدة فقهية فيما إذا خرجت طائفة على الإمام بتأويل سائغ وهي عنده، راسلهم الإمام، فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم، وإن ذكروا شبهة بَيَّنَها، فإن رجعوا وإلا وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين‏.‏

ثم إنهم أدخلوا في هذه القاعدة قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة و قتال علي للخوارج المارقين؛ وصاروا فيمن يتولى أمور المسلمين من الملوك والخلفاء وغيرهم يجعلون أهل العدل من اعتقدوه لذلك، ثم يجعلون المقاتلين له بغاة، لا يفرقون بين قتال الفتنة المنهي عنه والذي تركه خير من فعله، كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم وأتباعهم؛ كاقتتال الأمين والمأمون وغيرهما، وبين قتال الخوارج الحرورية والمرتدة، والمنافقين؛ كالمزدكية ونحوهم‏.‏

وهذا تجده في الأصل من رأي بعض فقهاء أهل الكوفة وأتباعهم، ثم الشافعي وأصحابه، ثم كثير من أصحاب أحمد الذين صنفوا‏:‏ باب قتال أهل البغي، نسجوا على منوال أولئك، تجدهم هكذا، فإن الخَرْقِيّ نسج على منوال/ المُزَنِي، والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن، وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب‏.‏

والمصنفون في الأحكام‏:‏ يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعاً، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتال البغاة حديث، إلا حديث كَوْثَر بن حكيم عن نافع، وهو موضوع ‏.‏

وأما كتب الحديث المصنفة ـ مثل‏:‏ صحيح البخاري، والسنن ـ فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج، وهم أهل الأهواء، وكذلك كتب السنة المنصوصة عن الإمام أحمد ونحوه‏.‏

وكذلك ـ فيما أظن ـ كتب مالك و أصحابه، ليس فيها باب قتال البغاة، وإنما ذكروا أهل الردة وأهل الأهواء وهذا هو الأصل الثابت بكتاب اللّه وسنة رسوله، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة، فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين، فليس في النصوص أمر بذلك، فارتكب الأولون ثلاثة محاذير‏:‏

الأول‏:‏ قتال من خرج عن طاعة ملك معين، وإن كان قريبًا منه ومثله ـ في السنة والشريعة ـ لوجود الافتراق، والافتراق هو الفتنة‏.‏

/والثاني‏:‏ التسوية بين هؤلاء وبين المرتدين عن بعض شرائع الإسلام‏.‏

والثالث‏:‏ التسوية بين هؤلاء، وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية؛ ولهذا تجد تلك الطائفة يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور، ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم، بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة، وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم، أو أئمة الكلام، أو أئمة المشيخة على نظرائهم، مدعين أن الحق معهم، أو أنهم أرجح، بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير، لا بالاجتهاد، وهذا كثير في علماء الأمة وعبادها وأمرائها وأجنادها، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها‏.‏ فنسأل اللّه العدل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به‏.‏

ولهذا كان أعدل الطوائف‏:‏ أهل السنة أصحاب الحديث‏.‏

وتجد هؤلاء إذا أمروا بقتال من مرق من الإسلام، أو ارتد عن بعض شرائعه، يأمرون أن يسار فيه بسيرة عليّ في قتال طلحة والزبير، لا يُسْبَي لهم ذرية ولا يُغْنَمُ لهم مال، ولا يُجْهَزُ لهم على جريح، ولا يقتل لهم أسير، ويتركون ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسار به عليّ في قتال الخوارج وما أمر اللّه به رسوله، وسار به الصديق في قتال مانعي الزكاة، فلا يجمعون بين ما فرق اللّه بينه من المرتدين والمارقين، وبين المسلمين المسيئين، ويفرقون بين ما جمع اللّه بينه من الملوك والأئمة المتقاتلين على الملك وإن كان بتأويل‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏